الإعجاز العلمي في آية: (والجبال أوتادًا)
من الآيات القرآنية التي استرعت اهتمام الباحثين والعلماء والدارسين على مر العصور، الآية الكريمة: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ [النبأ: 7]، التي تشكل ملمحًا بالغ الدقة من مظاهر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. فالقرآن نزل في زمن لم يكن فيه البشر على علم بتفاصيل التركيب الداخلي للأرض، ولا بكيفية نشوء الجبال ولا بوظائفها الجيولوجية. لكن هذه الآية القصيرة جاءت لتعبّر بلفظ بالغ الإيجاز عن حقيقة علمية لم يكشف عنها العلم الحديث إلا في القرن العشرين، الأمر الذي يدفع بقوة إلى تأمل البعد الإلهي والإعجازي في النص القرآني.
أولاً: دلالة لفظ (أوتادًا) لغويًا وبيانيًا
جاء لفظ “أوتادًا” في اللغة ليشير إلى الشيء الثابت المغروز في الأرض، كالوتد الذي يُستخدم لتثبيت الخيمة. وهذا التشبيه يفتح الباب لفهم البنية الجيولوجية للجبال، فالوتد لا يُرى في غالبه لأنه يكون مغروسًا تحت سطح الأرض، والجزء الظاهر منه لا يُمثّل كامل حجمه. وهذا يتطابق تمامًا مع الاكتشافات الجيولوجية الحديثة، حيث تبين أن معظم كتلة الجبل تكون مغمورة تحت سطح الأرض وتمتد كجذور عميقة، وهي تثبت القشرة الأرضية وتمنعها من التصدع والانزلاق.
ثانيًا: نظرة الجيولوجيا الحديثة للجبال
في ظل تطور علوم الأرض، توصل العلماء إلى فهم أكثر دقة للجبال ووظائفها، وخلصوا إلى نتائج تعزز الدلالة القرآنية. من أهم ما توصّل إليه علم الجيولوجيا ما يلي:
1. الجبال جذورها عميقة
تبين من خلال الرصد الزلزالي والبحث الجيولوجي أن الجبال لا تقتصر على الجزء الظاهر فوق سطح الأرض، بل تمتد بجذور ضخمة إلى داخل طبقات الأرض. فمثلًا، جبل الإيفرست الذي يبلغ ارتفاعه 8,848 مترًا فوق سطح البحر، يمتد إلى أكثر من 125 كيلومترًا تحت سطح الأرض بحسب تقديرات بعض الدراسات، وهو ما يشبه تمامًا الوتد الذي يغرس في الأرض لتثبيت الخيمة.
2. الجبال توازن القشرة الأرضية
أحد أبرز وظائف الجبال التي اكتشفها العلماء تتمثل في دورها في توازن القشرة الأرضية من خلال ما يُعرف بـ “الضغط الهيدروستاتيكي العكسي” (Isostasy)، وهو مفهوم يعبر عن توازن القشرة الأرضية على طبقة من الصخور المنصهرة. الجبال تساهم في هذا التوازن بوزنها الهائل وجذورها الممتدة، مما يمنع القشرة من الانزلاق أو التصدع.
3. الجبال تحمي الأرض من الزلازل
يُعتقد أن الجبال تعمل ككابح طبيعي للطاقة الزلزالية، حيث أن كتلتها الضخمة وجذورها تساعد في امتصاص جزء من الطاقة الناتجة عن حركات الصفائح التكتونية، ما يخفف من شدة الهزات الأرضية. كما أنها تساهم في تماسك الألواح التكتونية.
ثالثًا: تطابق النص القرآني مع الحقائق العلمية
القول الإلهي ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ جاء ضمن سياق تصويري دقيق لطبيعة تكوين الأرض، حيث يقول تعالى:
﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ [النبأ: 6-7]، والآيتان تصوران صورة متكاملة للأرض والجبال: الأرض ممهدة صالحة للحياة، والجبال أوتادًا تحفظ هذا الاتزان.
والمعنى يتجاوز مجرد الشكل الظاهري للجبل، ليصف بدقة وظيفته الجيولوجية. هذه المعرفة لم تكن متاحة بأي وسيلة زمن نزول القرآن الكريم، مما يدل على أن مصدر هذا الكلام ليس بشرًا، بل هو وحي من الله عز وجل.
رابعًا: الجبال الناتجة عن تصادم الصفائح
تبين من خلال علم الجيولوجيا البنيوية أن الكثير من الجبال نشأت نتيجة اصطدام الصفائح التكتونية، حيث تغوص صفيحة تحت الأخرى، وتتشكل الجبال من تراكمات الرواسب والضغوط الهائلة التي ترفع الكتل الصخرية إلى الأعلى بينما تمتد جذورها إلى الأسفل. ويُعد هذا التطابق مع تشبيه الوتد مذهلًا؛ فالوتد يغرس في الأرض بفعل قوة، كما الجبال تتكون بفعل قوى الضغط والانضغاط.
خامسًا: أمثلة توضيحية من الجبال
| اسم الجبل | الارتفاع الظاهري (متر) | الامتداد تحت الأرض (تقريبي بالمتر) | الموقع |
|---|---|---|---|
| إيفرست | 8,848 | أكثر من 125,000 | سلسلة الهملايا |
| جبل كليمنجارو | 5,895 | حوالي 60,000 | تنزانيا – شرق إفريقيا |
| جبال الألب | يتراوح بين 2,500–4,800 | حوالي 70,000 | أوروبا |
يبين الجدول أن الامتداد السفلي للجبال يفوق أضعاف الجزء الظاهر، ما يدعم فكرة “الوتد” المتجذر.
سادسًا: من أقوال العلماء المعاصرين
أشار عدد من العلماء الغربيين غير المسلمين إلى أن الجبال تُشبه في تركيبها الوتد، ومنهم عالم الجيولوجيا الكندي فرانك برس (Frank Press)، الذي شغل منصب رئيس الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة، وذكر في كتابه Earth أن الجبال تشبه الأوتاد، حيث أن الجزء الأعظم منها يقع تحت سطح الأرض، وتؤدي وظيفة حيوية في توازن القشرة الأرضية.
سابعًا: نظرة علمية إسلامية
أبرز المفسرين المعاصرين كالدكتور زغلول النجار قدّموا تفسيرات موسّعة لآية الجبال، وأشاروا إلى أن تعبير “أوتادًا” لم يكن مجرد استعارة بل وصف علمي دقيق. كما أشار الدكتور النجار إلى أن فهم هذا التشبيه لم يكن متاحًا للعرب في القرن السابع الميلادي، مما يعزز الإيمان بإعجاز القرآن في وصفه للعالم الطبيعي.
ثامنًا: الفرق بين الجبال والتلال في القرآن والعلم
من المهم التمييز بين الجبال الحقيقية ذات الجذور التكتونية العميقة، والتلال السطحية التي لا تمتد إلى أعماق الأرض. القرآن لم يستخدم وصف “الأوتاد” إلا للجبال الحقيقية، ولم يطلقه على التلال أو الكثبان، مما يدل على دقة اللفظ ومواءمته للحقيقة العلمية.
تاسعًا: السياق القرآني وآية النبأ
الآية الكريمة وردت ضمن سورة النبأ، وهي من السور المكية التي تناولت موضوع البعث واليوم الآخر والتأمل في مظاهر قدرة الله في الخلق. ففي هذا السياق، يُقدَّم الجبل كدليل على عظمة الخلق، ووظيفته كأساس في توازن الأرض. وهذا ما يجعل استخدام لفظ “أوتادًا” ليس فقط دقيقًا من الناحية العلمية، بل أيضًا من الناحية البلاغية، إذ يعكس استقرار الأرض واستعدادها لاستضافة الإنسان.
عاشرًا: تأثير الآية في الدعوة والإيمان
آية “والجبال أوتادًا” تُعد من أبرز الأمثلة التي يُستدل بها في الحوار مع غير المسلمين عند الحديث عن توافق القرآن مع العلم الحديث. وقد ساهمت هذه الآية في فتح قلوب كثيرين نحو الإسلام، حيث وجدوها متطابقة مع أحدث الاكتشافات في علم الأرض، رغم أنها نزلت في زمن لم يعرف فيه البشر شيئًا عن التركيب الداخلي لكوكبهم.
المصادر والمراجع
-
Frank Press and Raymond Siever, Earth, W. H. Freeman & Co., 1986.
-
د. زغلول النجار، “الجبال في القرآن الكريم”، مجلة الإعجاز العلمي – الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
